سورة يوسف - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حفص {أَوْ بَنِى} بفتح الياء والباقون بالكسر.
المسألة الثانية: أن يعقوب عليه السلام كان شديد الحب ليوسف وأخيه فحسده إخوته لهذا السبب وظهر ذلك المعنى ليعقوب عليه السلام بالأمارات الكثيرة فلما ذكر يوسف عليه السلام هذه الرؤيا وكان تأويلها أن إخوته وأبويه يخضعون له فقال لا تخبرهم برؤياك فإنهم يعرفون تأويلها فيكيدوا لك كيداً.
المسألة الثالثة: قال الواحدي: الرؤيا مصدر كالبشرى والسقيا والشورى إلا أنه لما صار اسماً لهذا المتخيل في المنام جرى مجرى الأسماء.
قال صاحب الكشاف: الرؤيا بمعنى الرؤية إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقطة فلا جرم فرق بينهما بحرفي التأنيث، كما قيل: القربة والقربى وقرئ روياك بقلب الهمزة واواً وسمع الكسائي يقرأ رياك ورياك بالإدغام وضم الراء وكسرها وهي ضعيفة.
ثم قال تعالى: {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} وهو منصوب بإضمار أن والمعنى إن قصصتها عليهم كادوك.
فإن قيل: فلم لم يقل فيكيدوك كما قال: {فَكِيدُونِى} [هود: 55].
قلنا: هذه اللام تأكيد للصلة كقوله: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}، وكقولك نصحتك ونصحت لك وشكرتك وشكرت لك، وقيل هي من صلة الكيد على معنى فيكيدوا كيداً لك.
قال أهل التحقيق: وهذا يدل على أنه قد كان لهم علم بتعبير الرؤيا وإلا لم يعلموا من هذه الرؤيا ما يوجب حقداً وغضباً.
ثم قال: {إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ} والسبب في هذا الكلام أنهم لو أقدموا على الكيد لكان ذلك مضافاً إلى الشيطان ونظيره قول موسى عليه السلام هذا من عمل الشيطان، ثم إن يعقوب عليه السلام قصد بهذه النصيحة تعبير تلك الرؤيا وذكروا أموراً: أولها: قوله: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} يعني وكما اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبر شأن كذلك يجتبيك لأمور عظام.
قال الزجاج: الاجتباء مشتق من جبيت الشيء إذا خلصته لنفسك ومنه جبيت الماء في الحوض، واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء، فقال الحسن: يجتبيك ربك بالنبوة، وقال آخرون: المراد منه إعلاء الدرجة وتعظيم المرتبة فأما تعيين النبوة فلا دلالة في اللفظ عليه.
وثانيها: قوله: {وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} وفيه وجوه:
الأول: المراد منه تعبير الرؤيا سماه تأويلاً لأنه يؤل أمره إلى ما رآه في المنام يعني تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم.
قالوا: إنه عليه السلام كان في علم التعبير غاية، والثاني: تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى والأخبار المروية عن الأنبياء المتقدمين، كما أن الواحد من علماء زماننا يشتغل بتفسير القرآن وتأويله، وتأويل الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والثالث: الأحاديث جمع حديث، والحديث هو الحادث، وتأويلها مآلها، ومآل الحوادث إلى قدرة الله تعالى وتكوينه وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث كيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات الروحانية والجسمانية على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته.
وثالثها: قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى ءالِ يَعْقُوبَ}.
واعلم أن من فسر الاجتباء بالنبوة لا يمكنه أن يفسر إتمام النعمة هاهنا بالنبوة أيضاً وإلا لزم التكرار، بل يفسر إتمام النعمة هاهنا بسعادات الدنيا وسعادات الآخرة.
أما سعادات الدنيا فالإكثار من الأولاد والخدم والأتباع والتوسع في المال والجاه والحشم وإجلاله في قلوب الخلق وحسن الثناء والحمد.
وأما سعادات الآخرة: فالعلوم الكثيرة والأخلاق الفاضلة والاستغراق في معرفة الله تعالى.
وأما من فسر الاجتباء بنيل الدرجات العالية، فهاهنا يفسر إتمام النعمة بالنبوة ويتأكيد هذا بأمور:
الأول: أن إتمام النعمة عبارة عما به تصير النعمة تامة كاملة خالية عن جهات النقصان. وما ذاك في حق البشر إلا بالنبوة، فإن جميع مناصب الخلق دون منصب الرسالة ناقص بالنسبة إلى كمال النبوة، فالكمال المطلق والتمام المطلق في حق البشر ليس إلا النبوة، والثاني: قوله: {كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وإسحاق} ومعلوم أن النعمة التامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق عن سائر البشر ليس إلا النبوة، فوجب أن يكون المراد بإتمام النعمة هو النبوة.
واعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء، وذلك لأنه قال: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى ءالِ يَعْقُوبَ} وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب، فلما كان المراد من إتمام النعمة هو النبوة لزم حصولها لآل يعقوب ترك العمل به في حق من عدا أبناءه فوجب أن لا يبقى معمولاً به في حق أولاده. وأيضاً أن يوسف عليه السلام قال: {إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} وكان تأويله أحد عشر نفساً لهم فضل وكمال ويستضيء بعلمهم ودينهم أهل الأرض، لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يهتدى وذلك يقتضي أن يكون جملة أولاد يعقوب أنبياء ورسلاً.
فإن قيل: كيف يجوز أن يكونوا أنبياء وقد أقدموا على ما أقدموا عليه في حق يوسف عليه السلام؟
قلنا: ذاك وقع قبل النبوة، وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لا قبلها.
القول الثاني: أن المراد من قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} خلاصه من المحن، ويكون وجه التشبيه في ذلك بإبراهيم وإسحاق عليهما السلام هو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النار وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذبح.
والقول الثالث: أن إتمام النعمة هو وصل نعمة الله عليه في الدنيا بنعم الآخرة بأن جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكاً ونقلهم عنها إلى الدرجات العلى في الجنة.
واعلم أن القول الصحيح هو الأول، لأن النعمة التامة في حق البشر ليست إلا النبوة، وكل ما سواها فهي ناقصة بالنسبة إليها، ثم إنه عليه السلام لما وعده بهذه الدرجات الثلاثة ختم الكلام بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقوله: {عَلِيمٌ} إشارة إلى قوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] وقوله: {حَكِيمٌ} إشارة إلى أن الله تعالى مقدس عن السفه والعبث، لا يضع النبوة إلا في نفس قدسية وجوهرة مشرقة علوية.
فإن قيل: هذه البشارات التي ذكرها يعقوب عليه السلام هل كان قاطعاً بصحتها أم لا؟ فإن كان قاطعاً بصحتها، فكيف حزن على يوسف عليه السلام، وكيف جاز أن يشتبه عليه أن الذئب أكله، وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه، وكيف قال لإخوته وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، مع علمه بأن الله سبحانه سيجتبيه ويجعله رسولاً، فأما إذا قلنا إنه عليه السلام ما كان عالماً بصحة هذه الأحوال، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها حكماً جازماً من غير تردد؟.
قلنا: لا يبعد أن يكون قوله: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} مشروطاً بأن لا يكيدوه، لأن ذكر ذلك قد تقدم، وأيضاً فبتقدير أن يقال: إنه عليه السلام كان قاطعاً بأن يوسف عليه السلام سيصل إلى هذه المناصب إلا أنه لا يمتنع أن يقع في المضايق الشديدة ثم يتخلص منها ويصل إلى تلك المناصب فكان خوفه لهذا السبب ويكون معنى قوله: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب} [يوسف: 13] الزجر عن التهاون في حفظه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه.


{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)}
في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكر صاحب الكشاف أسماء إخوة يوسف: يهودا، روبيل، شمعون لاوي، ربالون، يشجر، دينة، دان، نفتالي، جاد، آشر. ثم قال: السبعة الأولون من ليا بنت خالة يعقوب والأربعة الآخرون من سريتين زلفة وبلهة، فلما توفيت ليا تزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف.
المسألة الثانية: قوله: {لّلسَّائِلِينَ إِذْ} قرأ ابن كثير آية بغير ألف حمله على شأن يوسف والباقون {ءايات} على الجمع لأن أمور يوسف كانت كثيرة وكل واحد منها آية بنفسه.
المسألة الثالثة: ذكروا في تفسير قوله تعالى: {لّلسَّائِلِينَ إِذْ} وجوهاً: الأول: قال ابن عباس دخل حبر من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فسمع منه قراءة يوسف فعاد إلى اليهود فأعلمهم أنه سمعها منه كما هي في التوراة، فانطلق نفر منهم فسمعوا كما سمع، فقالوا له من علمك هذه القصة؟ فقال: الله علمني، فنزل: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ءايات لّلسَّائِلِينَ} وهذا الوجه عندي بعيد، لأن المفهوم من الآية أن في واقعة يوسف آيات للسائلين وعلى هذا الوجه الذي نقلناه ما كانت الآيات في قصة يوسف، بل كانت الآيات في أخبار محمد صلى الله عليه وسلم عنها من غير سبق تعلم ولا مطالعة وبين الكلامين فرق ظاهر.
والثاني: أن أهل مكة أكثرهم كانوا أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام وكانوا ينكرون نبوته ويظهرون العداوة الشديدة معه بسبب الحسد فذكر الله تعالى هذه القصة وبين أن إخوة يوسف بالغوا في إيذائه لأجل الحسد وبالآخرة فإن الله تعالى نصره وقواه وجعلهم تحت يده ورايته، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل كانت زجراً له عن الإقدام على الحسد والثالث: أن يعقوب لما عبر رؤيا يوسف وقع ذلك التعبير ودخل في الوجود بعد ثمانين سنة فكذلك أن الله تعالى لما وعد محمداً عليه الصلاة والسلام بالنصر والظفر على الأعداء، فإذا تأخر ذلك الموعود مدة من الزمان لم يدل ذلك على كون محمد عليه الصلاة والسلام كاذباً فيه فذكر هذه القصة نافع من هذا الوجه.
الرابع: أن إخوة يوسف بالغوا في إبطال أمره، ولكن الله تعالى لما وعده بالنصر والظفر كان الأمر كما قدره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء، فكذلك واقعة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله لما ضمن له إعلاء الدرجة لم يضره سعي الكفار في إبطال أمره.
وأما قوله: {لّلسَّائِلِينَ} فاعلم أن هذه القصة فيها آيات كثيرة لمن سأل عنها، وهو كقوله تعالى: {فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10].
ثم قال تعالى: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: {لِيُوسُفَ} اللام لام الابتداء، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة. أرادوا أن زيادة محبته لهما أمر لا شبهة فيه وأخوه هو بنيامين، وإنما قالوا أخوه، وهم جميعاً إخوة لأن أمهما كانت واحدة والعصبة والعصابة العشرة فصاعداً، وقيل إلى الأربعين سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور، ونقل عن علي عليه السلام أنه قرأ {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} بالنصب قيل: معناه ونحن نجتمع عصبة.
المسألة الثانية: المراد منه بيان السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف، وذلك أن يعقوب كان يفضل يوسف وأخاه على سائر الأولاد في الحب وأنهم تأذوا منه لوجوه:
الأول: أنهم كانوا أكبر سناً منهما.
وثانيها: أنهم كانوا أكثر قوة وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما.
وثالثها: أنهم قالوا إنا نحن القائمون بدفع المفاسد والآفات، والمشتغلون بتحصيل المنافع والخيرات.
إذا ثبت ما ذكرناه من كونهم متقدمين على يوسف وأخيه في هذه الفضائل، ثم إنه عليه السلام كان يفضل يوسف وأخاه عليهم لا جرم قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ} يعني هذا حيف ظاهر وضلال بين.
وهاهنا سؤالات:
السؤال الأول: إن من الأمور المعلومة أن تفضيل بعض الأولاد على بعض يورث الحقد والحسد، ويورث الآفات، فلما كان يعقوب عليه السلام عالماً بذلك فلم أقدم على هذا التفضيل وأيضاً الأسن والأعلم والأنفع أفضل، فلم قلب هذه القضية؟
والجواب: أنه عليه السلام ما فضلهما على سائر الأولاد إلا في المحبة، والمحبة ليست في وسع البشر فكان معذوراً فيه ولا يلحقه بسبب ذلك لوم.
السؤال الثاني: أن أولاد يعقوب عليه السلام إن كانوا قد آمنوا بكونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى فكيف اعترضوا عليه، وكيف زيفوا طريقته وطعنوا في فعله، وإن كانوا مكذبين لنبوته فهذا يوجب كفرهم.
والجواب: أنهم كانوا مؤمنين بنبوة أبيهم مقرين بكونه رسولاً حقاً من عند الله تعالى، إلا أنهم لعلهم جوزوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد الاجتهاد، ثم إن اجتهادهم أدى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهاد، وذلك لأنهم كانوا يقولون هما صبيان ما بلغا العقل الكامل ونحن متقدمون عليهما في السن والعقل والكفاية والمنفعة وكثرة الخدمة والقيام بالمهمات وإصراره على تقديم يوسف علينا يخالف هذا الدليل.
وأما يعقوب عليه السلام فلعله كان يقول: زيادة المحبة ليست في الوسع والطاقة، فليس لله علي فيه تكليف.
وأما تخصيصهما بمزيد البر فيحتمل أنه كان لوجوه:
أحدها: أن أمهما ماتت وهما صغار.
وثانيها: لأنه كان يرى فيه من آثار الرشد والنجابة ما لم يجد في سائر الأولاد.
وثالثها: لعله عليه السلام وإن كان صغيراً إلا أنه كان يخدم أباه بأنواع من الخدم أشرف وأعلى بما كان يصدر عن سائر الأولاد، والحاصل أن هذه المسألة كانت اجتهادية، وكانت مخلوطة بميل النفس وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخر أو في عرضه.
السؤال الثالث: أنهم نسبوا أباهم إلى الضلال المبين، وذلك مبالغة في الذم والطعن، ومن بالغ في الطعن في الرسول كفر، لا سيما إذا كان الطاعن ولداً فإن حق الأبوة يوجب مزيد التعظيم.
والجواب: المراد منه الضلال عن رعاية المصالح في الدنيا لا البعد عن طريق الرشد والصواب.
السؤال الرابع: أن قولهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} محض الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيما وقد أقدموا على الكذب بسبب ذلك الحسد، وعلى تضييع ذلك الأخ الصالح وإلقائه في ذل العبودية وتبعيده عن الأب المشفق، وألقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب فما بقيت خصلة مذمومة ولا طريقة في الشر والفساد إلا وقد أتوا بها، وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوة.
والجواب: الأمر كما ذكرتم، إلا أن المعتبر عندنا عصمة الأنبياء عليهم السلام في وقت حصول النبوة.
وأما قبلها فذلك غير واجب والله أعلم.


{اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)}
واعلم أنه لما قوي الحسد وبلغ النهاية قالوا لابد من تبعيد يوسف عن أبيه: وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل أو التغريب إلى أرض يحصل اليأس من اجتماعه مع أبيه ولا وجه في الشر يبلغه الحاسد أعظم من ذلك، ثم ذكروا العلة فيه وهي قولهم: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} والمعنى أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه فإذا أفقده أقبل علينا بالميل والمحبة {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صالحين} وفيه وجوه:
الأول: أنهم علموا أن ذلك الذي عزموا عليه من الكبائر فقالوا: إذا فعلنا ذلك تبنا إلى الله ونصير من القوم الصالحين.
والثاني: أنه ليس المقصود هاهنا صلاح الدين بل المعنى يصلح شأنكم عند أبيكم ويصير أبوكم محباً لكم مشتغلاً بشأنكم.
الثالث: المراد أنكم بسبب هذه الوحشة صرتم مشوشين لا تتفرغون لإصلاح مهم، فإذا زالت هذه الوحشة تفرغتم لإصلاح مهماتكم، واختلفوا في أن هذا القائل الذي أمر بالقتل من كان؟ على قولين: أحدهما: أن بعض إخوته قال هذا.
والثاني: أنهم شاوروا أجنبياً فأشار عليهم بقتله، ولم يقل ذلك أحد من إخوته، فأما من قال بالأول فقد اختلفوا فقال وهب: إنه شمعون، وقال مقاتل: روبيل.
فإن قيل: كيف يليق هذا بهم وهم أنبياء؟
قلنا: من الناس من أجاب عنه بأنهم كانوا في هذا الوقت مراهقين وما كانوا بالغين، وهذا ضعيف، لأنه يبعد من مثل نبي الله تعالى يعقوب عليه السلام أن يبعث جماعة من الصبيان من غير أن يكون معهم إنسان عاقل يمنعهم من القبائح. وأيضاً أنهم قالوا: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صالحين} وهدا يدل على أنهم قبل التوبة لا يكونون صالحين، وذلك ينافي كونهم من الصبيان، ومنهم من أجاب بأن هذا من باب الصغائر، وهذا أيضاً بعيد لأن إيذاء الأب الذي هو نبي معصوم، والكذب معه والسعي في إهلاك الأخ الصغير كل واحد من ذلك من أمهات الكبائر، بل الجواب الصحيح أن يقال: إنهم ما كانوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء إلا أن هذه الواقعة إنما أقدموا عليها قبل النبوة.
ثم إنه تعالى حكى أن قائلاً قال: {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} قيل إنه كان روبيل وكان ابن خالة يوسف وكان أحسنهم رأياً فيه فمنعهم عن القتل، وقيل يهودا، وكان أقدمهم في الرأي والفضل والسن.
ثم قال: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجب} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع {فِى غَيَابَةِ الجب} على الجمع في الحرفين، هذا والذي بعده، والباقون {غَيَابَةِ} على الواحد في الحرفين.
أما وجه الغيابات فهو أن للجب أقطاراً ونواحي، فيكون فيها غيابات، ومن وحد قال: المقصود موضوع واحد من الجب يغيب فيه يوسف، فالتوحيد أخص وأدل على المعنى المطلوب.
وقرأ الجحدري {فِى غَيَابَةِ الجب}.
المسألة الثانية: قال أهل اللغة: الغيابة كل ما غيب شيئاً وستره، فغيابة الجب غوره، وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله. والجب البئر التي ليست بمطوية سميت جباً، لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها غير القطع من طي أو ما أشبه ذلك، وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين.
المسألة الثالثة: الألف واللام في الجب تقتضي المعهود السابق، اختلفوا في ذلك الجب فقال قتادة: هو بئر ببيت المقدس، وقال وهب: هو بأرض الأردن، وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وإنما عينوا ذلك الجب للعلة التي ذكروها وهي قولهم: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} وذلك لأن تلك البئر كانت معروفة وكانوا يردون عليها كثيراً، وكان يعلم أنه إذا طرح فيها يكون إلى السلامة أقرب، لأن السيارة إذا جازوا وردوها، وإذا وردوها شاهدوا ذلك الإنسان فيها، وإذا شاهدوه أخرجوه وذهبوا به فكان إلقاؤه فيها أبعد عن الهلاك.
المسألة الرابعة: الالتقاط تناول الشيء من الطريق، ومنه: اللقطة واللقيط، وقرأ الحسن {تلتقطه} بالتاء على المعنى، لأن بعض السيارة أيضاً سيارة، والسيارة الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسفر.
قال ابن عباس: يريد المارة وقوله: {السيارة إِن كُنتُمْ فاعلين} فيه إشارة إلى أن الأولى أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك، وأما إن كان ولا بد فاقتصروا على هذا القدر ونظيره قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يعني الأولى أن لا تفعلوا ذلك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8